على مدار آلاف السنين، قامت مصر بمساهمات هامة في تطور البشرية وتقدم المجتمعات. وباعتبارها مهداً للحضارة ومنارة للعلم، كانت مصر رائدة في مجال الاكتشافات والابتكارات العلمية التي وضعت الأسس للعديد من المجالات العلمية كالفلك والكيمياء والطب وبالطبع الهندسة، التي لايزال التفوق المصري فيها مشهوداً إلى يومنا هذا في المعمار المهيب للأهرامات والكرنك.
منذ ستة آلاف عام، تم اختراع تقنية عبقرية لقياس الوقت ساعدت على تسجيل فترات فيضان النيل، وأدى هذا المنهج العلمي إلى انشاء التقويم الشمسي. أما علم الكيمياء، فيستقي اسمه من أحد أسماء مصر القديمة، كما استخدم هذا التخصص المعرفي بشكل كامل في صناعة الزجاج والبرونز وكيمياء المعادن بها. بل إن صناعة المركبات الجديدة كان أمراً معروفاً في ذاك الوقت. ووفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن فريق من العلماء الفرنسيين، كانت مساحيق العيون المستعملة في عصر الملكة نفرتيتي تحتوي على مركب رصاصي من صنع الإنسان كان يساعد على علاج بعض أمراض العيون أوعلى الوقاية منها. وفي الإسكندرية منذ ألفي عام تقريباً، كانت المكتبة والمتحف يمثلان مركزاً جاذباً للعلماء، من بينهم إقليدس وأرشميدس وهيباركوس وهيباتيا.
منذ ألف سنة تقريباً، ألقت الحضارة الإسلامية بظلالها الوفيرة التي امتدت إلى أوروبا وآسيا، بما قدمته من إنجازات علمية، مما مهد الطريق بلا أدنى شك لقيام النهضة الأوروبية، فازدهر العلم وانطلق رجال النهضة في أوروبا التي كانت تغط في الظلام.
أما العالم المسلم ابن الهيثم، الملقب في الغرب Alhazen، والذي عاش تقريباً في الفترة من 965 إلى 1040 ميلادي في العراق وفي مصر، فقد جاد بإسهامات كبرى في مجال التصوير والبصريات، فاستفاد من مفاهيمه ونهل من تجاربه العلمية كل من ديكارت ونيوتن وليوناردو دافينشي. وفيما يتعلق بالضوء، فقد أدخل ابن الهيثم ما يسمى بـ “الحجرة المظلمة” أو ما عُرف فيما بعد باسم “Camera Obscura”، وهو ما شكل الأساس للتصوير الضوئي الحديث
إن المعارف العلمية المفيدة التي قدمها ابن الهيثم وابن رشد (عالم الرياضيات والفيلسوف المعروف في الغرب باسم Averroes) وابن سينا (الطبيب الأكثر تميزاً في زمانه والمعروف باسم Avicenna) والخوارزمي (واسمه باللاتيني Alghoritmi والذي أستوحي من اسمه كلمة algorithm أي الحلول الحسابية) أدت إلى إنشاء مراكز التنوير في بغداد والقاهرة وقرطبة. ومنذ ألف سنة، تم إنشاء الأزهر الشريف ليكون مؤسسة معرفية رائدة تتصدر الجامعات الأوروبية.
كما شهدت مصر نهضة في التعليم والثقافة والصناعة منذ قرنين فقط أثناء عهد محمد علي الذي كان صاحب رؤى كثيرة. فجددت مصر تربعها إقليمياً على عرش القوى العظمى في المجالات الصناعية والعسكرية. وصاحبت تلك الفترة إصلاحات في التعليم تحت قيادة رفاعة الطهطاوي وتابعيه، والتي مثلت دعائم أساسية لقيام النهضة في مصر. وفي السنوات التي تلت تلك الحقبة، سطع نجم القاهرة باعتبارها مركزاً للدراسات والأنشطة الثقافية في الآداب والفنون والعلوم والإعلام، فشهدت الجامعات المصرية تخريج قادة في جميع المجالات امتد أثر ما قدموه من أعمال ليشمل جميع المجتمعات العربية. ومازلنا نعيش اليوم في أصداء إسهاماتهم، بدءاً بكتابات طه حسين ونجيب محفوظ وعلي مصطفى مشرفة، وإنتهاءً بأغاني وأفلام أم كلثوم وعبد الوهاب وفاتن حمامة.
في القرن العشرين، أنشأت مصر الحكم الديمقراطي الرشيد وأقامت مؤسسات قوية في مختلف القطاعات، منها جامعة القاهرة والبنك الأهلي وبنك مصر وجريدة الأهرام، بالإضافة إلى دعم الصناعات مثل صناعة النسيج والأفلام السينمائية. وبفضل هذه المكانة المرموقة، كانت مصر مركزاً جاذباً ومنهلاً لتعليم أجيال وأجيال من العرب.
لكن في وقتنا الحاضر، أصبحت إسهامات مصر والعالم العربي على المستوى العالمي في العلم و التكنولوجيا، وكذا في الإنتاجية الإقتصادية المبنية على المعرفة، أصبحت تلك الإسهامات متواضعة – إن كان لها ذكر في الأساس. وأدى ذلك إلى تصدير المهارات بما يعرف بظاهرة هجرة العقول، أي هجرة الكثير من العلماء الأكفاء إلى البلدان الغربية، كما أدى إلى استيراد التكنولوجيا من الدول الأخرى المتقدمة. فكانت نتيجة هجرة العقول وانعدام قاعدة علمية متينة في مصر وغيرها من البلدان العربية مما حد من مشاركتها في السوق العالمي.
إن العالم العربي ثري بالموارد البشرية والمالية، ولذلك ليس هناك ما يستدعي وجود عقبات كبرى تحول دون بناء قاعدة علمية على مستوى عالمي. وهذه القاعدة المعرفية ضرورية لمستقبل الشعوب العربية، ليس لتحقيق الرخاء الاقتصادي فحسب، بل أيضاً لتنوير هذه الشعوب بما يجعلها مؤثرة على الأصعدة العالمية. ونحن نمتلك أحد خيارين: إما أن نكون ثلاثمئة وخمسون مليون شخص من أهل الكهف أو أن نكون ثلاثمئة وخمسون مليون شخص من أهل الكون.